Originally published in Al-Araby Al-Jadeed, April 12, 2017
الخطوات التطبيعية مع إسرائيل آخذة في التسارع، إنْ على صعيد زيارات صحافيين وأكاديميين من المغرب العربي إلى الكيان الغاصب، بدعوة من وزارة خارجية الكيان الإسرائيلي، أو زيارات فردية لكويتيين إلى القدس المحتلة. مع أنباء عن احتمال بدء رحلات مباشرة من الكويت إلى القدس. علاوة على أخبار عن علاقات بين الإمارات وإسرائيل، فالأمثلة أصبحت متعددة للأسف. قبل تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية، لم يكن يعتري النقاش حول مسألة التطبيع مع الكيان الغاصب أي جدلٍ. وبعد اتفاقية إعلان المبادئ بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية (أوسلو)، وقيام السلطة، تشكل نوع من الغموض بشأن سيادة هذه السلطة على الأراضي المحتلة، إضافة إلى الإشارات المتناقضة من أطرافٍ فلسطينيةٍ حول الزيارات، ما يعني أن مسألة التطبيع أصبحت في حاجة إلى إعادة تقييم وتعريف. يعتقد كثيرون أن الذهاب إلى الضفة الغربية أو غزة، طالما اقترن بطلب من الفلسطينيين أنفسهم، لا يشكل تطبيعاً. ويجد عرب عديدون تبريرا منطقيا لزيارتهم الأراضي المحتلة أو حتى داخل حدود الكيان الغاصب، ما دامت السلطة الفلسطينية مشاركةً في التنسيق لمثل هذه الزيارات بأي شكل (تبريرات اللواء السعودي المتقاعد أنور عشقي مثلا)، بيد أن مثل هذه الادعاءات مبنيةٌ على أسس وحجج خاطئة. الواقع أنه لا توجد دولة فلسطينية ذات حدود مستقلة. وحتى إذا وضعنا جانبا أن السلطة الفلسطينية، في حد ذاتها، مؤسسة لا ينبغي أن يدعمها العرب، نظرا لدورها في إطالة أمد الاحتلال، فإن الحقيقة البسيطة أن زيارة العرب الأراضي المحتلة تعني تباعا الخضوع لسلطة الكيان الإسرائيلي الغاصب في الإشراف على الزيارة وقبولها. أليس هذا هو جوهر التطبيع مع الكيان الغاصب؟ يقدّم زوار فلسطين من هؤلاء عذرين أساسيين: أنهم يزورون فلسطين بناء على طلب من الفلسطينيين من أجل "دعم" دولتهم، وأنهم يزورون لرؤية المسجد الأقصى وقبة الصخرة للحفاظ على الحضور الإسلامي في القدس. وهذه ليست حججا مقنعة، فبداية، يفتح السماح بالزيارات المتدثرة برداء "التضامن" إلى الأراضي المحتلة الطريق أمام تجاوزاتٍ أكثر خطورة، فالزوار غير المرتبطين بهويات أو جوازات السفر الفلسطينية غير ملزمين بالبقاء في حدود الضفة الغربية، لا بل يتمتعون، في بعض الحالات، بحرية تنقل وحركة يُحرم منها الفلسطينيون، ويمكنهم حتى الدخول بسهولة إلى "إسرائيل". ثم إذا ما افترضنا جدلا أنه في وسعنا أن نخرج القدس من دائرة التطبيع، فما الذي يميز القدس من الناصرة أو حيفا، مثلا؟ كل هذه مدن فلسطينية، فلماذا لا يحق للعرب أن يزوروا هذه الأماكن التاريخية؟ وبالطبع، أتحدث هنا على سبيل السخرية! فطالما أن دولة إسرائيل باقيةٌ على صيغتها كيانا استعماريا- استيطانيا محتلا، فإنه لا يحق للعرب زيارة هذه المناطق، كما لو كانوا سياحا في بيروت أو القاهرة. فتح المجال أمام العرب للقدوم إلى الأراضي المحتلة سيسمح بإحداث سوابق خطيرة، علاوة على أنه من الصعب التأكد من نيات جميع الذين يزورون الأراضي المحتلة بحجة التضامن. إضافة إلى كل ما تقدّم، لنتحدث عن الآثار العملية لهذا "التضامن". إذا كان الحفاظ على الوجود الإسلامي يشكل، في أحيان كثيرة، ذريعةً للزيارات الدينية للقدس، وهو العذر الذي تقدمه شركة الطيران الكويتية لقرارها أخيرا، فكيف تساعد، على سبيل المثال، صلاة الكويتي في المسجد الأقصى الفلسطينيين؟ بمعنى آخر، ما هو التأثير الملموس من الناحيتين، المادية واللوجستية، لتلك الزيارات؟ الجواب: في الواقع، لا يوجد أي تأثير. صحيح أن الحضور في الأقصی آخذ في التراجع، لكن ذلك لا يعود إلى ضعف الوجود الإسلامي داخل فلسطین، بل إلى سياسة إسرائيلية منظمة لخنق المدينة القديمة في القدس وتهويدها. ولا تشكل زيارات المسلمين من العرب، أو من جنسيات أخرى، أي فارق يذكر، لأن تلك الزيارات فردية، ولا تتعدى كونها تضامنا رمزيا، لا يعالج أو حتى يواجه السياسات الإسرائيلية بأي شكل. بل ما يحصل أن تلك الزيارات تضفي شرعيةً للسيطرة الإسرائيلية على المساحات الإسلامية. وللتوضيح، لا شيء يحدث من دون موافقة إسرائيل في فلسطين، ما يعني أن السلطات الإسرائيلية لن تقبل زيارات عربية أو إسلامية إلى الأقصى، إذا لم تستفد منها بطريقة أو أخرى. ويجب أن يقود ذلك أي شخص عاقل إلى أن هذه الزيارات والخطوات تحصل بتساهل، وأحيانا تعاون، إسرائيلي يحجب أهدافا أخرى شائنة. إذا كان العرب، أو غيرهم من المسلمين، مهتمين بـ "الوجود الإسلامي" في المناطق ذات البعد والرمزية الدينيين في فلسطين، فيمكنهم المساعدة من خلال دعم حملات إبقاء المقدسيين في منازلهم، أو عن طريق تمويل عمليات تجديد هذه المواقع الدينية وإصلاحها، أو عدد من الاستراتيجيات الأخرى البديلة التي تغني عن الزيارات الرمزية غير المجدية للأماكن المقدسة. على سبيل المثال، توجد منظمات عديدة غير حكومية، مثل جمعيتي التعاون ومركز برج اللقلق المجتمعي ومؤسسة داليا التي تعمل على تنمية أرصدة مختصة للقدس وبرامج تساعد مباشرة على إبقاء العائلات المقدسية في منازلها في مواجهة العدوان الإسرائيلي، والتهديدات الاستيطانية، بالإضافة إلى برامج أخرى مصممة لمساعدة الفلسطينيين في كفاحهم ضد المشروع الصهيوني. يشكل التبرّع لهذه المنظمات إذا بديلا مناسبا للزيارات الرمزية التي تفتح المجال أمام التطبيع مع العدو الإسرائيلي. في النهاية، أعلم أن الرأي الذي أطرحه قد لا يحظى بشعبية بين بعض الأوساط الفلسطينية في الأراضي المحتلة. ففلسطينيون عديدون تواصلت معهم داخل الأراضي المحتلة عبّروا عن تعبهم من العزلة عن محيطهم العربي والإسلامي، وعن توقهم للتفاعل مع إخوتهم وأخواتهم العرب. ولهذا السبب، يصر فلسطينيون في الأراضي المحتلة، خطأ، على جلب العرب إلى الأراضي المحتلة. ولكن هذا منحدر زلق، ولا تأخذ مثل هذه التوجهات في الاعتبار العواقب طويلة الأمد لفتح المجال للذين لديهم نيات سيئة أو خفية للتعامل مع الإسرائيليين والمؤسسات الإسرائيلية. الاستمرار في سياسة الاستهانة بخطوات التطبيع، والتعامل مع سلطات الاحتلال يمثل كسرا للحاجز النفسي الذي يقف أمام التعامل مع أرض محتلة ككيان طبيعي. وقد يترتب على ذلك، في نهاية المطاف، كسر الحاجز العقلي في التعامل مع المحتل الصهيوني نفسه.
0 Comments
Originally published in Al-Araby Al-Jadeed 1/9/2017
غطّى انتخاب دونالد ترامب رئيساً في أميركا على مجريات الأخبار والتحليل، منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. ومع تأكيد أن نتيجة تلك الانتخابات انطوت على مخاطر جمة على العرب والمسلمين في كل من أميركا وحتى الشرق الأوسط، إلا أن الخوف من ترامب دفع محللين عديدين إلى تناسي أن ما يسمى اليسار الليبرالي في أميركا ليس أفضل حالاً من ترامب وأتباعه. فمع أخذ بعض الاستثناءات في الاعتبار، فإن المنتمين إلى اليسار الليبرالي في أميركا ليسوا مختلفين عن نظرائهم في اليمين حيال هجمات الطائرات بدون طيار (الدرونز) والتعذيب والتمييز العنصري والحروب في الشرق الأوسط. يختلف، بالطبع، الطرفان في توجهاتهما في شؤون السياسة الداخلية، إلا أنهما متطابقان في توجهاتهما بشأن الساحة الدولية، ويبدو ذلك جليا في قضية واحدة يتفق عليها اليسار الليبرالي واليمين بإخلاص في أميركا، وهي القضية الفلسطينية وكل الأنشطة المتعلقة بالدفاع عن الحق الفلسطيني. وقد دفع الخطاب الهابط في الانتخابات والانحطاط العام في السياسة الأميركية إلى التغاضي عن استفحال العناصر الفاشية في المجتمع والمشهد السياسي الأميركي. لنأخذ، مثلا، ما يسمى قانون معاداة السامية، يحاول قمع النشاطات المتعلقة بحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات أو حركة "BDS"، باعتبارها حركة معادية للسامية. وفي محاولة للتذاكي والتلاعب بتعريف معاداة السامية، عن طريق إضافة "نزع الشرعية عن إسرائيل" و"شيطنة إسرائيل" و"ازدواجية المعيار في التعامل مع إسرائيل" إلى هذا التعريف. ويعني ذلك بالطبع أن كل الانتقادات لإسرائيل مشمولة في هذا التعريف، حتى وإن لم ترتبط بمعاداة السامية بتاتا. وجدير بالتنويه أنه على الرغم من عدم مرور القانون في مجلس النواب، إلا أن الراعين له توجهوا، بكل دهاء، نحو تشجيع العاملين في وزارة التعليم الأميركية للاستفادة من القانون، للتعامل مع الطلاب الناشطين في مجال الدفاع عن القضية الفلسطينية في الجامعات الأميركية. ولم يكن مفاجئاً مرور القانون بإجماع في مجلس الشيوخ، مشيرا إلى توافق معتاد بين قوى اليسار الليبرالي واليمين حيال هذه القضية، حتى مع أن القانون محاولة مكشوفة لترهيب الناشطين في حركة مقاطعة إسرائيل في الجامعات والساحات المحلية. ومرّ القانون أيضاً على الرغم من مقالات رأي ومشورات قانونيةٍ لا تحصى، وحذّرت من تبعاته. وعلى الرغم من عدم مرور القانون في مجلس النواب، في دور الانعقاد الحالي، فإن القانون معروض للطرح مرة أخرى في الدورة المقبلة. وعلى المنوال نفسه، يهدّد سياسيون عديدون في الولايات المتحدة باتخاذ إجراءات ضد المنتمين لحركة مقاطعة إسرائيل، بما في ذلك أي شركات ترفض التعامل مع إسرائيل. وقد تبدو هذه القضية بمثابة صرخة الحرب للمحافظين وسياسيي الحزب الجمهوري. ولكن، عوضاً عن ذلك، يقف على رأس هذه الحملة "الليبرالي المحب للتنوع والتعايش" حاكم ولاية نيويورك، أندرو كومو، الذي قام بتجريم النشاطات المتضامنة مع الفلسطينيين، وهو الذي يدافع عن الأقليات العرقية والجنسية. وقد وقّع أمراً تنفيذياً في ولاية نيويورك، لقطع العلاقات المالية مع أي شركاتٍ ترفض التعامل مع إسرائيل. لا يعد استهداف النشطاء الفلسطينيين والمتضامنين معهم موضوعاً جديداً، خصوصاً عندما نتذكّر تجاوزات عهد جورج بوش من التنصت على المكالمات الهاتفية وتوريط العرب الأميركيين والمسلمين في جرائم أمن دولة عن قصد. ويمكن القول إن الخطاب اليميني والفاشي الذي ميز صعود دونالد ترامب بدأ يأخذ مجراه في المجتمع الأميركي. ويعني ذلك صعود اليمين وجماعات النازيين الجدد وازدياد جرائم الكراهية ضد المسلمين واستهداف المساجد والكرامة الشخصية للعرب والمسلمين وتجدد استهداف الذين يعملون من أجل فلسطين والقضايا العربية. ويجري ذلك كله في سياق تخاذل اليسار الليبرالي الأميركي، لا بل تواطئه (Originally posted on A3wadQash.com, 6/22/2016)
في خريف العام 2015م انفجرت المظاهرات في الضفة الغربية والتي خرجت بدون قيادات فيما يبدو وبدون تنسيق كرد على عنف المستوطنين المتصاعد فيما سمي بالـ”الانتفاضة الثالثة.” وبعد قمع الاحتلال الإسرائيلي السريع لها تحولت المظاهرات لهجمات فردية مسلحة. إن هذه المظاهرات غير المنسقة -المسلحة وغير المسلحة منها- استمرت في الظهور على امتداد الضفة الغربية، فعلى سبيل المثال، نقلت شبكة القدس الإخبارية أنه في 13 يونيو خرجت 24 مظاهرة في غضون خمس ساعات فقط في القدس الشرقية وأجزاء من الضفة. لذلك يبدو بوضوح للمراقبين لهذه الأحداث أن موجات التظاهر سمة سائدة في الأراضي الفلسطينية لكن ربما من غير الواضح أن هذه المظاهرات ليست بحال من الأحوال منتشرة بشكل متماثل في جميع المناطق، فبينما خرجت مظاهرات الخريف في مناطق الصراع ومخيمات اللاجئين، بقيت عدد من المدن الفلسطينية هادئة. إضافةً إلى أن حركات الاحتجاج لم تستمر بشكل متواصل -حتى هذه اللحظة- إلّا في قرى معينة، إذ أن خروج المظاهرات بشكل متماثل في جميع أنحاء الضفة الغربية يصبح بازدياد حدثًا نادرًا. من هنا يظل السؤال: من الذي يتظاهر؟ هل هناك نمط معين للتعبئة السياسية وما الذي يفسر هذا النمط أو هذا التفاوت بين المناطق المختلفة؟ هناك الكثير من الأدبيات العلمية التي تتناول العوامل الاجتماعية الاقتصادية كمفسّر للتعبئة أو الانخراط في التظاهر، وأحد هذه التفسيرات السائدة هي فكرة “الحرمان النسبي” التي تعني أن المتعلمين من أبناء الطبقة الوسطى المصابين بإحباط نتيجة لقلة الفرص هم من يتظاهر. تلتقي هذه النظرية مع نظرية “تعبئة الموارد” والتي تقول بأن من يمتلك موارد أكثر (كالثروة المالية أو التعليم) لديه إمكانيات تنظيمية أكثر وبالتالي كفاءة أكثر في التعبئة للتظاهر، وأبناء الطبقة الوسطى بالعموم يمتلكون معلومات أكثر وقدرة أكبر على التنظيم ووعي سياسي أعلى. المحاججة التي أقدمها تتفق مع هذه النظريات في أن ثمة بالفعل تفاوت طبقي واضح في حركات التظاهر، إلا أن هذا التفاوت يأخذ اتجاها مغايراً لما هو شائع في التفسيرات التي تطرح في النقاش العام أو في الأدبيات العلمية. فبينما ستفترض عدد من النظريات أن الطبقة الوسطى هي التي ستحشد للتظاهر، نجد أن العكس هو الصحيح في حالة الضفة الغربية، فالمنتمون للطبقة الوسطى في الضفة الغربية كانوا أقل مشاركة في التظاهر من الطبقات العاملة. إنه لمن المفاجئ أن نجد أولئك الذين يمتلكون مستويات دنيا من الموارد (كالطبقات العاملة في المناطق الريفية ومخيمات اللاجئين) هم الذين يشاركون في موجات تظاهر غير منقطعة تتسم بأنها غير منظمة وتستمر لفترة طويلة. لذلك فأنا هنا أجادل أن الطبقة الوسطى لا تسعى للتعبئة للاحتجاجات لأن مصالحها مرتبطة بالوضع القائم، بشكل أساسي بالسلطة الفلسطينية وما يتبع ذلك من الارتباط بالاحتلال، فالتعبئة للتظاهر ليست مرهونة فقط بتوفر الموارد البشرية أو المادية بل أيضا بعلاقة الأفراد في المجتمع بسلطة الوضع القائم. علاوة على ذلك فإن الطبقة العاملة لديها من الموارد ما لا نأخذه عادة في الحسبان، تحديدًا الصلات الاجتماعية الأقوى والتفضيلات الأكثر وضوحًا. لهذه الأسباب فإننا نجد التظاهر يتركز في مناطق لا نتوقعها: ريفية وأقل ثراءً وأضعف في القدرة التنظيمية، حيث نجد أفراداً لا يتمتعون بالضرورة بتعليم عالٍ أو بمدد من معلومات. الطبقة والدمقراطية تسليط الضوء على دور الطبقة الاجتماعية في التعبئة للاحتجاجات ظهر بشكل أساسي في أدبيات الدمقرطة (دراسات التحول نحو الدمقراطية) إذ يعتبر هذا الدور عامل أساسي في عملية الدمقرطة. لكن بقي ذلك محل جدل إذ استمر الباحثون بالاختلاف حول تحديد الطبقة الأكثر أهمية في هذه العملية. تاريخياً، تبنى العديد من الباحثين، كليبست واسيمقولو وروبنسون، الافتراض القائل بأن الطبقة الوسطى هي “حصن الدمقراطية” وأن التعبئة السياسية التي تقوم بها هذه الطبقة هي المكنة الرئيسية لعملية الدمقرطة. تزعم هذه الحجة أن الطبقة الوسطى تشكل منطقة عازلة بين طرفي الطبقات العاملة والنخب وتضمن بذلك تماسك الدمقراطية. الكثير من التحليلات التي تناولت الربيع العربي اعتمدت على هذا التفسير، إذ اعتبر الكثيرون أن الطبقات الوسطى في العالم العربي هي المسؤولة عن الاحتجاجات باعتبار أن قدرتها الأكبر على التنظيم وباعتبار احباطاتهم التي تتسبب فيها الأنظمة ( انظر على سبيل المثال تقرير البنك الدولي ). ونعم، بالفعل شاركت الطبقات الوسطى بأعداد كبيرة في البداية، لكن هذه المشاركة كانت متركزة حول المظالم الاقتصادية وليس الحقوق السياسية بشكل رئيسي كما يخلص إلى ذلك بيسنقر وجمال ومازور .ومن هنا فإن مخرجات احتجاجات الطبقة الوسطى كانت محبطة ونجاحها لم يعش طويلاً، لذلك كما سنرى في الفقرة القادمة فإن التفسيرات المرتكزة على الطبقة الوسطى للاحتجاجات لا تأخذ في الاعتبار فعالية مثل هذا الحراك من عدمه. تفسيرات للتعبئة السياسية هناك نظريتان كلاسيكيتان رئيسيتان تتناول التعبئة السياسية عبر الطبقة الاجتماعية واللتان تجيبان على أسئلة: من هم الذين يقومون بالتظاهر عادة وما السبب الذي يدفعهم لذلك؟.النظرية الأولى تركز على فكرة “الحرمان النسبي” والتي تقول بأن الذين يحملون توقعات عالية لا تواكبها السياقات السياسية الحالية هم أكثر عرضة للإحباط وبالتالي تكون احتمالية مشاركتهم في الحراك السياسي أكبر كما يجادل تيد روبرت في كتابه “لماذا يتمرد الإنسان“. ويستلزم من منطلق هذه الحجة القول إن أولئك الذين يتمتعون بتعليم أعلى وانجازات أقل هم أكثر من ينطبق عليهم هذا الوصف، أي بشكل أساسي الطبقات الوسطى. لاحظ باحثون لاحقون أن نظرية الحرمان النسبي ربما تفسر الدوافع النفسية للحراك السياسي لكنها لا تعطينا الصورة كاملة، فهي تحديداً لا تتناول الظروف البنيوية لهؤلاء الأفراد ولا الاستراتيجيات المتاحة لهم. ولهذا السبب قاموا بتطوير نظرية “تعبئة الموارد” القائلة بأن المظالم ليست شرطًا ضرورياً أو حتى كافياً لأي شكل من أشكال الحركات الاجتماعية، بينما السبب الأكثر أهمية لظهور الحركات الاجتماعية هو وجود أفراد يمتلكون موارد (وقت ومال وجهد) ، كما بين لي. إن القدرة على الوصول إلى مراكز مؤسساتية وإعلام ومعلومات ومال ونخب مهمة بشكل حاسم في ظهور الحراك السياسي. التعليم بالذات، يؤكد كلا من انديرسونوولفينقر، أنه يُمنح المرء فرصة أكبر للوصول إلى هذه الموارد كما يبذر في الفرد المصلحة الوطنية والواجب المدني ويوفر له قدرات تنظيمية أعظم. ولهذا نجد أن هذه النظرية مازالت تقود إلى فكرة أن الطبقة الوسطى أكثر جاهزية للحراك السياسي من الريف أو الطبقات العاملة إذا أخذنا في الاعتبار أن الطبقة الوسطى تتمتع بموارد مادية وبشرية أعظم. إعادة النظر في دور الطبقة العاملة بشكل عام، كل من التفسيران الشائعان والأدبيات العلمية المؤيدة لها أقصت الطبقة العاملة إلى هامش التفسير، إذ يزعمون أن قدرة الطبقة العاملة على التنظيم متدنية لأنها تمتلك موارد أقل. ينبع هذا المنطق من كون موارد الطبقة العاملة غير مدركة بشكل جيد ولذلك يتم اغفالها في التحليل، فخذ على سبيل المثال دور الشبكات الاجتماعية. الروابط الاجتماعية والشبكات القوية التي تتسم بها الطبقة العاملة ربما تعوض عن رأس المال المادي الذي تتمتع به الطبقة الوسطى (كالمؤسسات الفعلية والقدرة التنظيمية)، هذه الشبكات الاجتماعية قد تفضي إلى مد عمر تظاهر الطبقة العاملة في وجه القمع وفي وجه التكلفة العالية التي يدفعها الأفراد جراء الاحتجاج. المقاومة الفلسطينية في مخيمات اللاجئين في لبنان تعطينا مثالاً على هذه الديناميكية. فقد وجد براكنسون أنه بالرغم من القمع الشديد الذي تعرضت له شبكات المقاومة بعد الحرب الأهلية اللبنانية، فإن المقاومة الفلسطينية تمكنت إلى حد بعيد من الاستمرار في الوجود كنتيجة مباشرة للشبكات الاجتماعية القوية، الشبكات التي لا تضم مقاتلي المقاومة فحسب بل تتسع لفئات عريضة من الشعب (بما فيها النساء). الانتفاضة الأولى تمتعت بصفة مشابهة من حيث أن الشبكات الاجتماعية سهّلت حركة المقاومة المتواصلة بالرغم من القمع الإسرائيلي؛ وحفزت قطاعات واسعة من المجتمع للمشاركة في الاحتجاج كما خلص بيرلمان في بحثه. هذه الديناميكية ذاتها تتكرر في فلسطين اليوم. فعلى سبيل المثال يبين البحث أن أكثر الحركات الاجتماعية فاعلية وقابلية للاستمرار هي تلك التي تظهر في دوائر الطبقة العاملة. ففي فلسطين اليوم نجد أن الفعل الجمعي الاحتجاجي المنظم والمتواصل ينشط في أغلب الأحيان في المخيمات وقرى الريف. في أكتوبر من العام 2015م ظهرت المظاهرات المتواصلة -والتي نعتت بـ”الانتفاضة الثالثة”- في مناطق مثل مخيم العايدة ومخيم قلنديا بالإضافة إلى المناطق التي لا تخضع للسلطة الفلسطينية ولا إلى أراضي الثمانية وأربعين كالقدس الشرقية. هذه المناطق يشكل الفقراء غالبية سكانها كما أنها أقل ارتباطا بمؤسسات الدولة (سواءً السلطة الفلسطينية أو الكيان الصهيوني). فوفقاً لقاعدة البيانات عن التعبئة السياسية في فلسطين -والتي قام الباحث بجمعها- فقد خرجت أكثر من 1400 مظاهرة في الضفة الغربية منذ العام 2007م من بين هذه المظاهرات لم يخرج إلا 328 في مناطق حضرية أكثر ارتباطاً بالسلطة الفلسطينية ومؤسسات الوضع القائم. في أوقات الهدوء النسبي توضع التعبئة التي تهدف للتحرير الوطني في المقعد الخلفي بالنسبة للطبقة الوسطى، فالمراكز الحضرية الرئيسية والمناطق الأكثر ثراء تظل إلى حد بعيد غير متحفزة للاحتجاج. فقط في المناطق الريفية تبرز الحركات الاجتماعية غير المنقطعة، نجد على سبيل المثال أن الحركات الاحتجاجية في قرى بلعين ونبي صالح وبدرس بقيت متقدة لأكثر من عقد. هذه الحركات الاجتماعية الريفية منفصلة عن بُنى القوة التقليدية. انهم يتظاهرون وينخرطون في عصيان مدني رغم الضغوطات التي تمارس ضدهم للإحجام عن مثل هذا العمل السياسي الاحتجاجي (سواء من الكيان الصهيوني أو السلطة الفلسطينية). في الوقت ذاته نجد أن شرائح من الطبقة الوسطى قد تم حصرهم في قنوات العمل السياسي “الرسمية” (الانخراط في السلطة الفلسطينية أو في مؤسسات المجتمع المدني المحترفة) حتى أولئك الذي يعملون على قضايا التحرر الوطني يميلون إلى تبني رؤى ومقاربات ضيقة وبالتالي يظلون متشظين وغير متحفزين للتعبئة الاحتجاجية كما بيّن دعنا. لا يعني ذلك أن الطبقات الوسطى تعاني اضطهاداً دون الذي تعانيه الطبقة العاملة، ففي نهاية المطاف تخسر الطبقة الوسطى الكثير من جراء الاحتلال وتبعاته على الفرص المتاحة لهم. إنهم يعانون اضطهاداً أعظم ولديهم أسبابٌ أكثر للاحتجاج، لكنهم في الواقع ليسوا أبطاله. هذه الظاهرة لا يمكن فهمها من خلال النظريات الموجودة، إن النظريات الموجودة في حقيقة الأمر تقول بعكس ما هو حاصل. بالإضافة إلى قوة الشبكات الاجتماعية فإن الطبقة العاملة تتمتع بتفضيلات واضحة ومباشرة. ففي حالة المجتمعات المستعمرة على سبيل المثال تكون الطبقات الوسطى مرتبطة عضوياً بالدولة المستعمرة، فبينما تكون مصالحهم مرهونة ربما على المدى البعيد بالاستقلال والدمقراطية، فإنها على المدى القصير تتحدد بالدور الذي يلعبونه في سياسة الوضع القائم. فالطبقة الوسطى لها مصالح راسخة في مؤسسات الدولة أياً كانت هذه المؤسسات. في فلسطين تأتي على شكل وظائف في السلطة الفلسطينية، منافع مادية يتم الحصول عليها عبر الكيان الصهيوني إضافةً إلى المنافع المتحصلة من لعب دور القوى “الليبرالية” المناصرة “للسلام”. وحين تتوفر لها مساحة للمناورة، فإن الطبقة الوسطى تنخرط في العملية السياسية الاعتيادية وتتحرك سياسياً وفق “قواعد اللعبة”. وبناءً على ذلك فإن مصالحهم الحقيقة يسهل تشويهها واحتواءها. يأتي ارتباط الطبقة الوسطى بمؤسسات الدولة على النقيض تماماً من حال الطبقة العاملة، والحركات الاجتماعية التي ظهرت في القرى الفلسطينية تقدم نموذجاً يدعم هذه النقطة إذ نجد أن مسؤولي الدولة يفشلون في احتواء هذه الحركات أثناء سعيهم للقفز على شعبيتها المتصاعدة. هذا الفشل يعود إلى أن القرويين لا يجدون من الدولة أي منافع تذكر (مثال على ذلك قرية بلعين التي استعرض قصتها الفيلم الوثائقي “خمس كاميرات محطمة” (رابط مباشر للفيلم) فمصالحهم تتعارض بشكل تام مع استمرارية الوضع القائم، ففي قرى بدرس وبلعين وبني صالح يطالب القرويون بانهاء نظام الفصل العنصري بأكمله فلا يوجد مطلب أقل من ذلك يخفف عنهم المعاناة. إنهم لا ينتفعون من الوضع القائم عبر مناصب في السلطة الفلسطينية أو الاندماج مع الكيان الصهيوني فالطبقات العاملة بطبيعة الحال وبالذات في ظل حكم سلطوي تقبع في هوامش المجتمع وهذا التهميش يمنحهم القدرة على الإصرار على مصالحهم بعيدة المدى وقريبة المدى على السواء بوضوح ومن دون تشوهات. الخلاصة إن الحالة الفلسطينية تدعونا لإعادة تقييم فهمنا للطبقة الاجتماعية، ليس فقط في توسيع مفهوم ما نعتبره موارد تنظيمية ذات قيمة بل في فهم الدور الذي تلعبه كل طبقة في علاقتها ببنى القوة والذي بدوره سيمكننا من الوصول لفهم أفضل للتعبئة السياسية. إلا أن ذلك لا ينبغي أن يقودنا للقول بأن الطبقة الوسطى لا تنخرط في أي احتجاج في أي وقت إنما يساعدنا على معرفة ما الذي يجعل الحركات الاجتماعية التي تعتمد على الطبقة الوسطى عاجزة عن تحقيق التغيير الواسع والجارف كما يفترض المحللون منها عادة ذلك. إن الطبقة الوسطى، يقول فرانز فانون، تجد مبرر وجودها عبر الدولة بغض النظر عن مدى كونها قمعية أو استبدادية أو مستعمرة. لذلك فإن علينا ألا نتوقع نهوض عريض من قبل الطبقة الوسطى لقيادة حركة احتجاجية ذات بال، علينا بدلاً من ذلك أن نبحث عن ضالتنا في مكان آخر حيث الوعي والإرادة بمعارضة الوضع القائم تكون في أقصاها: أن نعلق الآمال على الطبقة العاملة. |
Picture taken at Dheisheh Refugee Camp, Bethlehem, Palestine
This page is for any pieces of writing that may not be accessible to certain countries on the websites they were originally posted on. ArchivesCategories
|